الدكتور جمال لعبيدي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بقلم: د. جمال لعبيدي

 

للحجر الصحي بسبب كورونا فضائل لا تقتصر على المجال الصحي وحده. لدينا الوقت، أو بالأحرى، لدى الذين لا يعانون مشاكل البقاء اليومي الوقت. لم يسبق، ربما في أي مكان على سطح الأرض، أن فكر الناس في معنى الأشياء والحياة بهذه الحدة، كأننا لم نفكر بالفعل أبدا، مستغرقين في دوامة يومياتنا. الجو اليوم في العالم جو إبداع، تنتقل فيه الأفكار عبر طرق الاتصالات بسرعة الضوء. هذا التفكير سيفضي حتما إلى شيء ما، نظرا للضخامة البادية على الذكاء الجماعي حاليا: ويكيبيديا عملاقة.
يعود الطيور إلى المدن. أمر مؤثر: أسمعها تزقزق في الحي السكني لأول مرة منذ مدة طويلة. يغمرني شعور غريب كما لو كنت أتفاعل معها. قد نصبح أكثر معقولية في المستقبل...
في البلاد، في كل مكان، نجتمع مساء كل يوم لمتابعة أرقام تطور الوباء ومقارنتها بأرقام بلدان أخرى. نفس الأحاسيس، نفس الارتياح عندما نلاحظ أن الوباء لم ينفجر، وخاصة نفس الشعور الأخوي الذي يتقاسمه جميع الجزائريين بلا شك، الممزوج بالشفقة على الضحايا وكأنهم نحن.

 

نعم للحجر، لا للحجر...
الحجر هو الكارثة الاقتصادية، بدون الحجر تقع الكارثة الصحية. لم يسبق أن عشنا معادلة كهذه. ما هي الحلول؟ يجري البحث لإيجاد حلول توفيقية بين المطلبين. النبأ السار هو تراجع ذاك الصلف، الذي ظهر في بعض البلدان عبر محاولة التضحية بكبار السن على مذبح المتطلبات الاقتصادية. لكن المشكل الاقتصادي باق ومقلق للغاية ولا ينبغي غض الطرف عنه. الفيروس يمارس التمييز العمري والبعض يقترح رفع الحجر عن الشباب أولا: قد يكون هذا أحد الحلول، لكن كيف يطبق؟
الحياة الاقتصادية تمارس، من جانبها، تمييزا آخر، التمييز الاجتماعي، على مستوى انعكاسات الحجر الصحي، البطالة، ظروف السكن والهشاشة الاجتماعية، بصورة عامة. هناك تطاحن بين الإحيائي والاجتماعي. إنه وضع غير مألوف ويتطلب حلولا غير مألوفة. هل البشرية على موعد مع منعرج في مسارها التاريخي؟
ها هي ذهنية القلعة المحاصرة. الفيروس يحوم خارج الجدران. يجب أن نغادر الحجر يوما ما، أن نخرج ونجابه العدو، أن نجابه الفيروس وجها لوجه. لحظة هذيان.

 

من سخريات التاريخ
عودة إلى الواقع. من سخريات التاريخ: كل هذا يحدث في الوقت الذي يشهد العالم عجزا ديمقراطيا أو يشعر بالحاجة إلى ديمقراطية أعمق وأحدث. في كل مكان، برزت حركات شعبية، "حراكات "، راحت تنمو ويشتد عودها بمساعدة شبكات التواصل الاجتماعي، أي بفضل التنمية التكنولوجية. هل في هذا حل لذاك المشكل؟ هل نتوقع أن تعاني الديمقراطية السياسية من الوضع الراهن ما دامت، من حيث التعريف، تعتمد على الحوار، على حرية التعبير وتجلياتها، بما فيها المظاهرات والتجمعات؟ كيف التوفيق بينها وبين الحجر؟، مشكل آخر مستجد: هل ستتولى شبكات التواصل الاجتماعي مسؤوليته؟ كأن التكنولوجيات الجديدة جاءت في الوقت الذي لا نملك بديلا عنها.
في فرنسا الآن التعليمة الرسمية تنص على أن يكون الشخص خارج بيته مقنعا، مغطى ومرتديا قفازات أيضا. أمر يبعث على التبسم. لنتذكر تلك الحملات الشعواء، الجنونية، التي جندت مجموع الطبقة السياسية الفرنسية أو يكاد ضد الحجاب، النقاب، لصرف انتباه الناس عن المشاكل الحقيقية. عجبا ! ألم يعد غطاء الوجه خطرا على الأمن الوطني، مؤشرا على اضطهاد وتعبيد المرأة... كم يبدو كل ذلك سخيفا اليوم بعد أن جاءت كورونا ووضعت النقاط على الحروف.
لا شيء كان يبدو قادرا على وقف قوات التدخل الغربية، خاصة أبرز رموزها وهي حاملات الطائرات. سخرية التاريخ هنا كذلك: حاملة الطائرات "ثيودور روزفلت" وحاملة الطائرات "شارل ديغول" متوقفتان بفعل... كورونا، التي أجبرتهما على العودة إلى مرفئيهما من أجل الحجر.
بعض النخب من بلاد المغرب وإفريقيا عموما تعودت على التنقل للعلاج، في رحلة شبه سرية، إلى باريس. الجزائر معنية أيضا بهذا الأمر، بالرغم من نوعية السلك الطبي في البلاد، وحتى العديد من المنشآت الاستشفائية، سواء في القطاع العام أو في القطاع الخاص. كان هؤلاء يشدون الرحال لمجرد إصابة بالشلال أو فتق أو بروستاتة. ومهما حاول الأطباء الفرنسيون إقناعهم بأن ما يقومون به بإمكان زملائهم الجزائريين القيام به، إلا أنهم كانوا يعيدون الكرّة المرة تلو الأخرى. وها هو عدد هام من هؤلاء وجد نفسه عالقا بالخارج، متلبسا جنحة الارتياب في بلده، مرعوبا جراء انتشار الوباء بسرعة البرق في فرنسا وأوروبا ومستعجلا العودة إلى البلد. وها هم الآن يرغون ويزبدون ضد حبهم السابق الذي خيب ظنهم، ضد "بلدان أوربية لا تملك كمامات ولا وسائل الكشف وتتصرف مثل آخر بلد متخلف". آه كورونا آه...

 

العلم والسياسة
الأطباء العامون ماجين غادين على التلفزيونات الفرنسية. إنهم ينتقمون من الاختصاصيين والأساتذة، انتقام فاقدي الرتب وضباط الصف من الضباط السامين والجنرالات. الجدل محتدم. كل واحد يطمح إلى إنقاذ العالم، يقترح حلا أو يعتقد أن فرصة البروز قد لاحت أخيرا. السجال حول الأستاذ رؤولت، وعلاجه يأخذ أبعادا سياسية، دون أن نعرف من المستهدف بالضبط، أهو الشخص أم العلاج. ولكن لماذا لم يشكل الأستاذ رؤولت مجموعة شاهدة، التي يتطلبها المنهج العلمي؟ لغز محير.
عندما تختلط السياسة بالعلم، نكون أمام مؤشر على أزمة عميقة في المجتمع، على بلبلة تنم عن تراجع العقلاني أمام العقائدي، بل وحتى الخرافي. العقل الديكارتي الشهير يتلقى ضربة جسيمة، ويعود جو الأوبئة والذعر الذي ميز العصور الوسطى. هناك من يؤمن بعلاج ما وهناك من لا يؤمن. وهناك من يطالب بحق المريض في اختيار علاجه بنفسه. وهناك من ذهب إلى حد إجراء سبر آراء عدد من الفرنسيين بشأن العلاج المقترح من الأستاذ رؤولت، في حين نشر وزير سابق للصحة - وهو طبيب - عريضة على الانترنت تأييدا لنفس العلاج...
في ظل العجز المسجل على مستوى الكمامات، تقدم أطباء وحتى بعض الأساتذة من المقربين جدا من صناع القرار، ليقولوا في التلفزيون بأن " الكمامات غير نافعة للأصحاء "، الأمر الذي أثار سخط زملائهم. الفضيحة كبرت وتحولت إلى فضيحة سياسية. موقف السلطة من قضية الكمامات ازداد تعقيدا بالرغم من التفسيرات المقدمة: من يخلط في الخطأ يعمقه. بعض الأطباء والأساتذة يجازفون في الكلام تحت وطأة كثرة الظهور، وبعضهم الآخر يستسلم للجو النفسي المضطرب الذي يسود في الوقت الراهن. الفيروس مجهول وهم يقولون أي شيء بشأنه، مثل عامة الناس، والناس يكتشفون أن الطبيب شيء والعلمي شيء آخر.
كل مساء، على الساعة الثامنة، يصفق السكان من شرفاتهم لتشجيع السلك الطبي. كانت البداية من إيطاليا، ثم انتشر ذلك في أوربا. العالم يقر بالجميل. في الجزائر أيضا، لم يسبق أن حاز سلك مهني ما على هذا القدر من المحبة والاحترام. إنهم أبطال ساحة المعركة ضد كورونا، بطولة جديدة، يومية، بعيدة عن قرع الطبول.

الأستاذ رؤولت

الأستاذ رؤولت يزداد شهرة في البلاد المغربية والإفريقية، لاسيما وأنه صرح مؤخرا أن " لا علم فرنسي من دون الباحثين المهاجرين أو المغتربين العرب والأفارقة ". لهذا الأستاذ هيئة الفنان والعالم في آن واحد. سبق أن وجهت له أكثر من مرة، حسب ويكيبيديا، تهمة الغش والتلاعب بالمعطيات العلمية. وجرى منعه من النشر، في 2006، في مجلة الجمعية الأمريكية للبيولوجيا. ومع ذلك، له معجبون بين الشباب بسبب مقاومته للأعراف. وكدليل على تفتحه الذهني، بالمقارنة مع الموقف السائد في فرنسا، يشار إلى أنه يكون قد عارض منع الحجاب في معهده، وهناك فيديو متداولة على نطاق واسع بالجزائر. إنه يقول كذلك بأن " الأفارقة والعرب أكثر عملا وأحسن تكوينا وهم الأفضل ". طق ! للذين لا يتوقفون عن النواح على " منظومة التكوين المنكوبة " ولا يعترفون بأفضالها إلا عندما تسمح لهم بالعمل والاعتراف في الخارج. إن ما يقوله الأستاذ رؤولت يرفع من شأننا، بالتأكيد، ولكن هناك مشكل. والمشكل هو أن الأستاذ رؤولت ومعهده، " المعهد الإستشفائي – الجامعي للبحر المتوسط "، يعملان عمل المضخة الجاذبة لهجرة الكفاءات، وبالتالي لنهب مواردنا البشرية التي كلف تكوينها أثمانا باهظة. قد يسرع البعض إلى تكرار الرد المعتاد بأن ذلك سيعود علينا بالفائدة مستقبلا. غير أن هذه الفائدة طال قدومها عشرات السنين. المعهد المذكور مؤسسة ضخمة، ممولة بصورة رئيسية من طرف السلطات الفرنسية، من بينها الجيش. وهي ذات طاقة تفوق الغرض منها وتقع قبالة إفريقيا وتعمل كآلة لإنتاج المنشورات. وقد أمضى فيها العديد من العلميين الجزائريين الشباب فترات تدريب بتوجيه من أساتذتهم الجزائريين. وهي تمثل للراغبين في المغادرة وسيلة هامة جدا تمكنهم من الحصول بسرعة على تأشيرة ونشر بعض الدراسات، تمهيدا للاندماج في الخارج وذلك إلى تاريخ ظهور... كورونا، على الأقل. في المقابل، سمح كل ذلك للمعهد وللأستاذ رؤولت شخصيا بالاستفادة من شبكة تعاطف متينة في بلاد المغرب، يتجلى أثرها اليوم عبر الثقة الممنوحة للعلاج الذي يقترحه وعبر التأييد الذي يحظى به الأستاذ نفسه.
في فرنسا ترتفع حاليا أصوات تطالب الجيش بالتدخل، مصرحة بأن تسيير الأزمة الصحية ثم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية عن قريب، يتطلب وجود سلطة حقيقية " مركز قيادة، مارشال فوش ". للتذكير، فقد قام المارشال فوش، أثناء الحرب العالمية الأولى، بإعدام مئات الجنود رميا بالرصاص من أجل " استعادة النظام في الجيش ".
من علامات الزمان: الجيش الجزائري طالب، بالعكس، برئيس مدني وبالاحترام التام للدستور

 

في الجزائر
أمر غريب: على قدر ما يشعر المرء بالشك، بأزمة ثقة في البلدان الغربية بشأن القدرة على مواجهة الأزمة، على قدر ما يشعر - ربما نتيجة للحراك ولعودة الأنفة - بالمزيد من الثقة بالنفس في الجزائر، وبتقلص حجم أحاسيس بخس الذات التي تعرضنا للأذى. هل يعود هذا أيضا لكون جميع البلدان تعاني نفس الأزمة، فيقع بالتالي تلاشي بعض الرواسم المنتشرة بشأن البلدان المتخلفة ؟ أم لأننا نكتشف، بمناسبة هذه الأزمة، قدراتنا، الاحتياطات الصحية المتراكمة، الكفاءات المتوفرة، طاقاتنا الاجتماعية، أي كل العوامل التي أسأنا تقييمها من قبل؟ ربما استطعنا أن نتغلب على هذه المحنة بأقل الأضرار؟ شعور يدب دبيبا...

خلاصة القول: البشرية تتقدم دائما نزولا عند الضرورة. تحت وطأة الوباء الحالي، وجدت مسائل كثيرة، كانت محل نقاش متجدد في الجزائر، حلولا بصورة طبيعية، مثل نظافة المدن، استعمال وسائل الدفع الالكتروني وغير ذلك. يتجند الناس في المدن والقرى وهم فخورون بالظهور على جبهة الكفاح ضد المرض. الأسلاك الصحية، الحماية المدنية، مصالح الأمن، مصالح النظافة: لا توجد مهام صغيرة وكل واحد يدرك ذلك وكأن الحراك يتواصل بنفس الاندفاع الوطني، لكن ضد الوباء هذه المرة. و ظهور عدد من مؤشرات الحداثة اليوم مثير للانتباه بلا شك: تلك التمارين التي يقوم بها عناصر الحماية المدنية مجهزين بأحدث الأجهزة، أساليب عمل الفرق الصحية ونظافة بدلاتهم الوقائية، استعمال التكنولوجيات، المبادرات المتزايدة عبر الوطن لصناعة الكمامات، الجسر الجوي نحو الصين ليجلب منها طيارو الإيليوشين، ذهابا وإيابا، أطنانا من المعدات، الالتزام بارتداء الكمامات في الإدارات، الخدمات، الجيش، الخ. هذه الصور التي تنم عن الحداثة، هل هي صور دعائية؟ قد تكون كذلك، إلا أن بعضها على الأقل يبدو واقعيا تماما.

التصدي لهذه الأزمة يظهر، بالنسبة لكل بلد، كأنه تحضير، في نفس الوقت، للخروج منها. رئيس الجمهورية محق في تأكيده على هذه النقطة، خلال زيارته مستشفى بني مسوس، وتشديده على استغلال هذا الظرف لتهيئة المستقبل وتصحيح أخطاء الماضي، لاسيما في مجال الصحة العمومية. لكن لماذا يجاري أحيانا غيره باستعمال الخلطة الفرنسية - العربية، العديمة الأناقة، البشعة، الملتبسة. شيء تفصيلي؟ غير أكيد. لن نلح. الرئيس تبون يريد طمأنة الجزائريين، بعث الثقة في قدراتهم. يبدو شاعرا بالحاجة إلى أسلوب سياسي جديد، أبسط وأكثر ديمقراطية. من المناسب، في هذا الاتجاه، أن يتفضل بوضع حد للأسلوب الفخم، الموروث عن عهد آخر، والذي ترمز إليه قاعة مجلس الوزراء. في البلدان الديمقراطية، تكفي عدة طاولات وكراسي لاجتماع الحكومة. حجم القاعة والتكلف العتيق لن يزيدا شيئا لأهمية مجلس الوزراء. الأمل معقود على تكريس تلك الإرادة المعلنة للتوجه نحو المزيد من التواضع وبالتالي المزيد من الفعالية والروح الديمقراطية في تسيير شؤون الدولة. إنه وجه آخر من وجوه الكفاح ضد كورونا، كفاح يضفي على الشعور بالمساواة والعدالة أبعادا حيوية، كونه يكشف اليوم عن قدرات كل أمة.

modal