رؤية ميطاباطنية

احميدة. ع

 


هكذا تحول كورونا إلى أهم حدث على وجه البسيطة، بدا لأول مرة كشبح ليصبح حقيقة ترزح فوق صدورنا، سلعة تسوق بشكل رهيب مع الأفكار والعواطف والهواجس والثقافات، كورونا وباء ما بعد حداثي، جعل العالم الجديد في مواجهة طيفه القديم الذي لم يغادره إلا على صعيد ظاهر المسرح المفتوح الذي تتنافس على روحه الآمن العظمى

عندما أعلن عن ظهوره في الصين بدا الأمر مهيأ لكل الحروب التي تم خوضها في السابق ضد التنين الذي غالبا يوصف بالتنين النائم، ولم تكن يقظته الاقتصادية خلال العشريات الأخيرة فقط مزعجة بل شكلت بؤرة حرب عالمية غير مسبوقة على ساحة الاقتصاد

سارعت الميديا في تعليلها الوباء إلى ربطه بأسلوب الحياة الصيني، وكانت إشارات الساعة بمثابة البهجة التي كانت تستعد للتعبير عنها إيديولوجيا العالم النيوليبرالي التي ترى في الصين رمز الشر الداهم، رمز الشمولية الشيوعية المتوسلة طريق الرأسمالية الوطنية الهجينة، وعند الشعوب العربية الإسلامية، كانت كورونا متنفسا دينيا لكن عنصريا كذلك تجاه هذا البلد الذي تقمع فيه الأقلية المسلمة وتتعرض للإبادة، لكن كورونا لم تقبع وراء سور الصين العظيم، لم تتحول إلى ذلك الوحش المنتقم الذي سينقض على الجان الأصفر وينفذ في شعوبه العقاب الرباني، لم يحدث ذلك، بل تمكن كورونا أن يغادر الأرض الصفراء ويتجول خارج الحدود ليقرع باب أوروبا وأمريكا والعالم الإسلامي، الأرقام قلبت كل الأفكار الجاهزة ووضعت الأيديولوجيا النيولبرالية تحت الحجر الفكري،

لم تتمكن الحرب الباردة التي أنهت التاريخ بين الرأسمالية والشيوعية لصالح الولايات المتحدة من الانبعاث والتجدد، لم يتمكن العالم من بعث نسختها الجديدة المنقذة في ظل العولمة الصاعدة، لم تكن هناك حرب بالمعنى الكلاسيكي والمألوف أصلا وذلك برغم السيناريوهات التي راحت تتحدث عن خدعة صينية للعالم، غايتها تحقيق الفوز الاقتصادي الساحق، بل أحيت كورونا شعورا جديدا، وهو الشعور بنهاية الإنسان القديم، الإنسان الذي رضع من حليب الحروب القديمة في الأفكار وفي الميدان، الإنسان الذي فتح عينيه على لعبة السياسة كخدعة كبرى وحيلة عالمية للسيطرة على حياته ومستقبله وبالتالي على كل ما يملك من ثروات وأحلام وأوهام

كورونا، فيروس هرب من عقاله، غادر معقله، ليكشف لنا عن تلك المفاتن الجميلة لموت رخو ووباء حمل كل ملامح الإنسان، نلقاه في الانتظار لينقض علينا بغتة، هو الموت الذي بدأنا نراه لأول مرة وليس هو فقط يرانا، وننتظره كذلك ولا يملك سلطة التربص بنا  حيث يمكن أن نحل، نقارعه ليس فقط بالكمامات وسوائل التعقيم والقفازات الطبية والتغيير المفاجئ لسلوكياتنا اليومية وعزلتنا البيتية وتنقلاتنا المحسوبة وحسب، بل نقارعه بثقافة أساسها الانبثاق من حالة خطر العدوى، ثقافة الحفاظ على البقاء أحياء، غير مصابين، وغير معرضين للفناء ومتحدين للموت الذي نسعى إلى تجريده من كل أسلحته المنتجة، الرمزيات التي يحيا من خلالها بهلاكها الموت، والخوف والذعر.

لم يعد الموت مع كورونا شيئا مرعبا، بل عاد كائنا مؤنسا، يوفر الموت ببساطة مرئية ومن هنا أصبحت المسألة تدعونا إلى التفكير في الحياة قبل الموت، والحياة ليست أي حياة، بل هي الحياة الحقيقية التي نعمل على الاحتفاء بها في أوقات الحروب والنكسات والدراسات العائلية والخيبات الكبرى التي تملأ وجودنا بالمرارة.

يطل علينا العالم ونحن في بيوتنا بأخبار المصابين بكورونا، تتوزع الحالات على الجغرافيا، تتداخل الثقافات والحضارات والعقائد، تتشابك الأفكار والأفكار المسبقة والتصورات، تتقاطع اللغات المرئية للإنسانية القلقة واللغات الحية وشبه الحية ونصف الميتة والمميتة والمنتصرة والمتسلطة والمهزومة والتابعة، كل هذه اللغات تخترق أجسادها أشكال الفيروس المعلوم، تنفذ في حروفها وأشكالها، وتغور في معانيها وتنتج تلك المعاني المتشابهة والمستنسخة والمتوافرة معا، من يريد إنقاذ من؟ ننقذ أنفسنا أم ننقذ الآخرين؟.

العالم في حاجة إلى عملية إنقاذ، لكن ممن؟ من العدو الخفي؟ من العدو الكامن والسري؟ من العدو البعيد؟ من العدو الشبيه والقريب؟

ما العدو؟ من يكون العدو، أولا في اللغة، وفي الفكرة، وفي الصورة، وفي الخيال وفي الحقيقة، تلك الأسئلة التي نلامسها ونحن نفكر بوجودنا وأقاربنا وبأوطاننا، نعيشها بدون رعب، بل بشكل زانzen..

في الأيام الأولى لم تكن كورونا حقيقة، كان قربها منا نوعا من السخرية والتهديد الاصطناعي، هكذا رأيت الجزائري يردد، الجزائري يريد التغيير، ولهذا تصور أن كروو نائب غير قادرة على الوقوف في طريقه، لن تثنيه من صلاته الطقسية التي اعتنقها منذ الـ22 فيفري.

 

 

modal