"إنَّ زمنَ العالم المنتهي قد بدأ" كما كتب ذات يوم بول فاليري. لقد كان هذا الكاتبُ والشاعرُ الرائي، في اعتقادي، يؤرخُ للحظةٍ فاصلة في إدراك الإنسان لمستقبل الأرض التي بدأت تضيقُ أمام أطماع التوسع والاستعمار والهيمنة. فالعالمُ المُنتهي هو ذلك الذي اختفى فيه المجهول وانكمشت فيه روحُ المغامرة على الأقل في مستوى الكشوف الجغرافية الكبرى. لقد أصبح كريستوف كولمبس ذكرى ماض متلفع بالسّحر والدهشة ووعود الأبواب العجيبة التي تخفي الكنوز في الأصقاع النائية. انقضى زمنُ إبحار القراصنة وحل عهدُ إدارة الكوكب وفق تعاليم مكيافيللي المقدَّسة. فبعد أن انحسرَ الأفقُ وأغلقَ العالمُ نوافذَ الانفتاح على السر، أصبحَت الأرضُ غرفة ضيقة يلتقي فيها البشرُ على إيقاع النزاع وتبادل المصالح والمنافع. لم تعد اللقاءاتُ سعيدةً أو واعدة وإنما مناورات دائمة واستراتيجيات تخضعُ للعبة الأدوار التي يمليها توازنُ القوى. وقد أدى "نزعُ هالة السحر عن العالم" أيضا، كما بيَّن ماكس فيبر، إلى تزامن اختفاء العوالم القديمة وانهيار حساسيتها مع ميلاد الحداثة العلمية - التقنية وتحولها إلى وسيلة سيطرةٍ ومراقبة غير مسبوقة للبشر. وأعتقدُ أننا نعيشُ منذ عشريات، وبصورةٍ تتبدل أقنعتُها، تحت رحمة هذه الحداثة التي تحركُ خيوطَ رقصتها اللافتة من وراء الستار أصابعُ شايلوك (ذلك المُرابي الجشع في مسرحية شكسبير الشهيرة "تاجر البندقية"). هذا، ربما، ما ذهب إليه المفكرُ الفرنسيُّ الكبير إدغار موران مؤخرًا وهو يتحدَّثُ عن فيروس كورونا وما يستثيره فينا من تأملاتٍ حول مآلات الحضارة المادية ومآزقها على المستويات الإنسانية.
   لقد أيقظ فينا هذا الحدثُ العالميُّ المرعب، بطبيعة الحال، ضرورة التساؤل حول أمرين أعتقدُ أنَّ إدغار موران والمفكرَ والاقتصاديَّ جاك أتالي قد أتيا على ذكرهما في تدخلهما مؤخرًا. فهناك من جهةٍ أولى ما يطفو على سطح الأزمات الكوكبية بصورةٍ دائمةٍ وأعني بذلك قضية مراجعة العولمة الحالية التي حصرت همَّها في الأبعاد التقنية الاقتصادية مُهملةً التضامنَ البشريّ ومقلصة دوافعَ التواصل وأهدافه بين الأمم والشعوب إلى الاستغلال والربح. إنها الحداثة في شكلها الليبرالي الذي لا يزال يتمسَّك بذكرى مركزية الإنسان وحريته وسيادته على الطبيعة منذ أعلن ديكارت بصورةٍ مشهدية عن ذلك قبل قرون. إنها، بمعنى ما، حداثة تقوم على براديغم شائخ. وليذهب العالمُ بمشاكله البيئية والصحية إلى الجحيم. وليذهب التضامنُ، هو كذلك، إلى الجحيم. إذ من الأمور الأكثر دلالة على ما نذهب إليه هنا هو طريقة مجابهة الأزمات العالمية من قِبل القوى الكبرى التي يبدو أنها لجأت إلى الاستثمار في الخوف وإعادة بعث التفكير في "الحدود" القومية ضمن منحى ميَّز أنانية الأمم في القرن التاسع عشر. يُسمّي اليمينُ السياسيُّ هذا الأمرَ "الحمائية" التي تجعل من المصلحة الضيقة صلاة وثنية لسدنة الاحتكارات في معبد السوق. فكأنَّ هذا الوباء الخطيرَ الذي يلحُّ بشدَّةٍ على تذكيرنا بوحدة المصير البشريّ فيما وراء الحدود القومية والثقافية لا يعني الشيءَ الكثير؛ وكأنَّ العقل السياسيَّ ظل راكدًا ويراوح مكانه أمام التغيرات الحاصلة على مستوى علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بالبيئة. لقد كان على الثقافة، بمعنى ما، أن تواكبَ تباشيرَ براديغم جديد يؤسّسُ لعلاقاتٍ أخرى مع الطبيعة والآخر. نقول هذا بالطبع ونحن مدركون لما تعرَّضت وتتعرَّضُ له الحداثة منذ عقودٍ من نقدٍ طال سردياتها الكبرى المعروفة وإيديولوجياتها الخلاصية الآفلة وانحرافاتها أيضا. فهل علينا أن نظل أبدًا ورثة "تاريخ فاسد" و "تقنية أصابها الجنون" و "أنظمةٍ وضيعة تستطيعُ أن تُدمّرَ اليوم كل شيءٍ دون أن يكون بمستطاعها إقناعنا" كما يعبّرُ بصورةٍ لافتة ألبير كامو في "خطاب السويد" الشهير؟
   يحقُّ لنا أن نتساءل قليلا خارج مدارات الهلع الذي شمل الكوكب عن مآلات أحداثٍ مماثلة ونتائجها في المستقبل القريب على مستوى العلاقات السياسية والأوضاع الاقتصادية والتحالفات الاستراتيجية والبنيات الثقافية التي تقوم عليها علاقاتُ القوة. ربما سيكون التنبؤ، هنا، نوعا من المخاطرة الأكيدة والتسرع غير المسؤول. فالمستقبل لا يسكنُ في الماضي كما تنامُ شجرة الزيتون في بذرتها. المستقبل شبكة احتمالات كما يعلمنا التاريخ ولا تستنفدُه تعاليمُ التاريخانية التي بيَّن لنا كارل بوبر، جيّدًا، تهافتَها. ولكنَّ قراءة المستقبل قد تستندُ، في شكل من أشكالها، على الأشباه والنظائر من مخزون التاريخ كما يقال. ربما هذا ما حاول جاك أتالي من خلال نبرةٍ نبويَّة تُعرفُ عنه أن يقوله في مقال نشره مؤخرًا. لقد لاحظ، ببصيرةٍ نافذة، أنَّ تاريخ الأوبئة والكوارث في أوروبا منذ العصور الوسطى كان يتبعه دائما إعادة النظر في أسس السلطة السياسية ونظام القيم الذي تستندُ إليه. ويخلصُ إلى القول إنَّ انحسارَ الأزمة الحالية قد يعقبهُ انتقالُ السلطة إلى الذين يبدون التعاطفَ مع الغير ويقوم نضالهم على الاهتمام بمشاكل الصحة والتغذية والتعليم والضيافة والبيئة. هذا، طبعا، إن تمَّ الانتقال كما يقول - إلى الطور الجديد المُحتمل بطريقةٍ سلسةٍ ما دامت مخاطرُ عودةِ الانحرافات السلطوية الشمولية والقمعية قائمة إلى حد الساعة. ربما لن يعودَ العالمُ، فعلا، كما كان وهذا، بالطبع، على مستوى الوعي برهانات المستقبل المُشترك الذي أصبح من الجليّ والمعروف أنَّ العولمة الاقتصادية الحالية لا تأبه به كثيرًا في حُمَّى اللهاث وراء الربح وجعل الاستهلاك بمثابة كرنفال و مُخدّر كوني. سيدرك البشرُ أنَّ البحثَ في وضعهم الصحيّ وبيئتهم وأنظمتهم الغذائية لم يكن، ربما، إلا مجالا للاستثمار تتحكمُ فيه عقلية "شايلوك".
      لقد كان من هواجس النزعة الإنسانية الكبرى منذ بزوغ فجرها على الأقل في مستوياتها الفكرية وتطلعاتها الأنوارية أن تدشنَ فصلا جديدًا يرمّمُ الجسورَ المنسوفة بين البشر بفعل الانغلاق الذي أبقاهم أسرى لـ "أنظمة الاستبعاد المتبادل" الدينية والطائفية كما يُعبّرُ البروفيسور الراحل محمد أركون. ولكنَّ الإنسانية ضيَّعت، في اعتقادنا، فرصا كثيرة كانت كفيلة بجعل البشرية جمعاء تدرك أنَّ خلاصَها يكمن في التعاطف والوعي بوحدة المصير مادام الجميعُ "على ظهر السفينة" الواحدة التي تصارعُ الطوفان إن استعرنا تعبيرَ محمود درويش الجميل. ولكن يبدو أنَّ ثنائية "شايلوك" و"إرادة القوة" لا تريدُ ذلك. تاريخنا المعاصر كله يحتفظ بسجلات الرفض تلك. فماذا فعلنا أمام الخطر النوويّ الذي أيقظنا - قبل عقودٍ على إمكان الدمار الشامل وفناء البشرية؟ ماذا فعلنا أمام المخاطر البيئيَّة التي أيقظتنا منذ زمن، هي الأخرى، على أوهام تسبَّبت فيها عنجهيتنا واعتقادنا الساذج بمركزيتنا الكونية وبأننا أسيادٌ على الطبيعة؟ هذه الأسئلة وغيرها نستطيعُ توجيهها لمنظوماتنا الأخلاقية الإنسانوية الأسيرة كجميلةٍ مختطفة عند ندَّاهات الإغراء الاقتصاديّ والسياسيّ؛ كما نستطيعُ توجيهَها للعلم الذي اكتفى، منذ عقودٍ، بأن يتحوَّل إلى خادم لدى زبانية العالم في صورة مؤسَّسات بحثٍ مرتبطة باستراتيجيات القوة والسيطرة والثراء.
أيها "العالمُ المنتهي"، متى تصبحُ عالما متَّحدًا؟ أم أنَّ شايلوك الحداثة - في طبعتها المنحرفة - لا يزال يُلهمُ أسيادَ العالم سيناريوهات النهاياتِ الأكثر رعبا؟
 

 

modal