في مقال قصير عنوانه «ما الذي سيَنتُج عن الكورونا؟»[1]، بحدس مستقبلي لكن برؤية نقدية تراجعية، قدَّم المفكر جاك أتالي (ولد بالجزائر سنة 1943) انطباعه حول حالة العالم في شقَّين رئيسين؛ هما الصحَّة/المرض والاقتصاد. يُخيَّل إليَّ أن فكرة أتالي نتشوية في جوهرها، لأن منذ نهاية القرن التاسع عشر، عصر الأزمات السياسية والثورات والأوبئة أيضاً، قطع نتشه مع النموذج المهيمن منذ 2500 سنة وهو الصدق/الكذب في الإطار الحصري للرؤية المنطقية للعالم منذ أرسطو، ليعوّضه بنموذج جديد هو الصحة/المرض، وأن معيار الحقيقة يصبُّ في عنصر بديهي، لكنه مبهم وملغز هو الجسد العليل. بيَّن أتالي كيف أن الأوبئة خلال الألف سنة الأخيرة هي التي صنعت الخريطة السياسية والأمنية لأوروبا الناشئة وقتها؛ أوروبا التي كانت ترزح تحت «النموذج الأول» الذي كان يتحدَّد في الباراديغم الديني/اللاهوتي، كانت فيه حصة الأسد للكنيسة الكاثوليكية في سياسة قمعية لا هوادة فيها تُجاه الشقيقة العاقة «الكاثارية» إلى غاية إفنائها نهائياً، ثم تُجاه الضرَّة المشاغبة «البروتستانتية» لاحقاً.
جاء وباء الطاعون في القرن الرابع عشر، ليُزعزع الثقة تُجاه السلطة البابوية المطلقة، فكان أن حلَّ الشُّرطي محل القس؛ أي الولوج في الدولة الحديثة أو ما سمَّيناه «النموذج الثاني»، وهو الباراديغم السياسي/الأخلاقي الذي هيَّأته فلسفات الحق الطبيعي والحقوق المدنية منذ فولتير وروسو ولوك. لم يكن الانتقال من النموذج الأول إلى النموذج الثاني على صعيد «الفكرة» أو الأيديولوجيا فحسب، بجعل الأنوار مضادَّة لروح العصر الوسيط الكهنوتي، بل كانت على صعيد «الحياة» بأن عوَّض شخص الطبيب شخص الشُّرطي في سياسة الحياة والحفاظ عليها، حيث شهد القرن التاسع عشر أوج التَّمظهر الكوني للحياة (داروين وأصل الأنواع، نتشه ومعيار الحقيقة في الصحة والمرض، دلتاي ورؤية العالم والحياة).

يُلخِّص أتالي الانتقالات من السيادة القائمة على الاعتقاد في «النموذج الأول» إلى السيادة القائمة على احترام القوة، ثم احترام سيادة دولة الحق والقانون في «النموذج الثاني». يتحدَّث أتالي عن انزياح على مستوى «صورة الفاعل» (القس، ثم الشُّرطي، ثم الطبيب)، وحبَّذتُ إجراءً آخر على مستوى «النموذج الفاعل» من وجهة نظر كُلاَّنية (holisme) لا تتنكَّر للأنطولوجيات المحليَّة والجزئية، لأن صورة الفاعلين الآخرين ليست أقل أهمِّية في سياسة الحقيقة أظهرها ميشيل فوكو منذ «ميلاد العيادة» (1963) وإلى غاية «الحراسة والعقاب» (1975)، مثل صورة «رجل القانون». هو أن نظام الخطاب اختلف باختلاف الأشخاص التي عاتقها سياسة الحقيقة في الميادين الميكروفيزيائية للسلطة، سواء أتعلَّق الأمر بالعيادة أم بالسجن أم بالمؤسسة التَّربوية.
عندما درس ميشيل دو سارتو «الانقلاب النموذجي»[2] في حدود القرنين 16-17م؛ أي الانتقال من النموذج الأول إلى النموذج الثاني، وكان «عصر الباروك» (Baroque) هو عُقدة أو دسيسة هذا الانتقال، نظراً للرؤية الأخروية والتشاؤمية للعالم وقتها، من جرَّاء الأوبئة وانهيار الوحدة العقائدية للكنيسة في طوائف متناحرة، فإنه لمس نوعاً من الاحتيال أو الثورة المضادَّة على الإصلاح، بعودة النموذج اللاهوتي متلبِّساً في الحكم الملكي المطلق (تواطؤ الأمير والقس). طبعاً، لم يدم شهر العسل طويلاً بين الوحدة العقائدية للكنيسة الكاثوليكية المتآكلة والملكية المطلقة في أوروبا، لأن المقاومة الثقافية والفلسفية في صناعة إنسان العصر كانت على قدمٍ وساق توَّجتها الثورتان الأمريكية (1763م) والفرنسية (1789م) بمستويات مختلفة من التفاؤل السياسي والإرهاب الفكري.
كيف حدث الانتقال من «النموذج الثاني» إلى «النموذج الثالث» الذي يُمثِّله الباراديغم الاقتصادي/المالي؟ لم يشرح أتالي المسألة سوى من باب عُنصرين هما «السوق» و«الديمقراطية» في تعزيز الحقوق الفردية. أميل إلى القول بأن عُنصر «الحياة» كان بمنزلة «الثقاف» الذي يعتمل ضمنياً في الحضارة، وأن «الفكرة» (أو الأيديولوجيا) كانت في مقام «الثقافة». الأشخاص المذكورة من طرف أتالي (القس، الشُرطي، الطبيب) ما هي سوى صور المثقف في مهام محدَّدة، لأن كان على عاتق هذا المثقف أن يُبرهن للمجتمع كيف يحفظ الحياة من الجوائح. فشل القس (دوره هو الحفاظ على اعتقاد جاف وشعا
وشعائر يتمُّ تأديتها بتفانٍ)، وانحسر دور الشرطي (دوره هو الحفاظ على الأمن القومي في الأوقات العصيبة بما يدرأ الحرب الأهلية)، وتنامى دور الطبيب (دوره هو درأ المرض وجلب الصحَّة بما يردُّ للحياة استحقاقها).غير أن هؤلاء الأشخاص الذين يُمثِّلون الثقافة لم يعملوا دون ثقافٍ يديرهم ويُوجِّههم من وراء حجابٍ؛ تجلَّى تارةً في النموذج الأول في صورة «الإيمان»، وتارةً أخرى في النموذج الثاني في صورة «القوَّة»، ويتجلَّى في النموذج الثالث في صورة «السِّلعة»، حيث تحتوي السوق رمز البضاعة المتنقِّلة دون حدود جغرافية وجمركية بما يتطلَّبه منطق التجارة العالمية، بل جرى أيضاً «تسليع» الأشكال الرمزية كالفن (اللوحات الزيتية في المزاد العلني) والدين (المواعظ المدفوعة الأجر من لدن دعاة فاعلين مثل بعض الطوائف البروتستانتية) والعلم (الاختراعات التقنية، المدنية منها والعسكرية، مثل المواصلات اللاسلكية كالهواتف الذكيَّة والدرونات أو الطائرات المسيَّرة). لم يكن النموذج الثاني سوى معكوس النموذج الأول، لأن صورة الراعي أو القائد في الأيديولوجيات الشمولية ذات الحزب الواحد (النازية، الستالينية، الفاشية) هي مقلوب صورة القس، وكانت تستعمل الشُرطي في تعزيز عُضو الدولة المهيمنة (الحزب الواحد) بما كان يُسمَّى وقتها بالبوليس السرِّي.

جاء النموذج الثالث ليُفجِّر النموذج الثاني بالتوكيد أن الحرية ضرورية لنقل البضائع وتنقُّل الأشخاص، ومن ثمَّ حركة الأفكار والإبداع وحرية التعبير والاعتقاد (النظام الليبرالي)، ساعدته في ذلك التكنولوجيات الحديثة وعلى رأسها الشبكة (الأنترنت) والعولمة. ربما يكون رجال البورصة والأسهم قد حلُّوا مكان القساوسة بالأمس، فهم المعكوس المادي لما هو رمزي، ما دام الشكل الاقتصادي والمالي يتلبَّس أدوار الشكل الديني (وردت كلمة «تجارة»[3] في القرآن بالمعنيين المادي والرمزي وبشكلٍ من المطابقة الاستعارية)، ولا يمكن سوى تصوُّر ساحة البورصات والأسواق المالية العالمية في الأخذ والرَّد واغتنام الفرص للظفر بالعوائد المالية في حينها كساحات الحج والطواف في الظفر بالأجر. نجد أنفسنا في انتقالات هي في الواقع دوائر متداخلة وأدوار متلبَّسة، وكل نموذج من هذه النماذج لم يُقدِّم القيمة الملائمة للوجود الإنساني في العالم، وجود متأزِّم بما يصادفه من جوائح ومصائب، إن لم تكن أعاصير مدمِّرة من جرَّاء الاحتباس الحراري والتلوُّث البيئي، فمن جرَّاء أوبئة كالتي نشهدها اليوم مع الكورونا (كوفيد 19). يرى أتالي في التضامن العالمي القيمة الوحيدة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تآكل النماذج التنظيمية، السياسية منها والاقتصادية، بوجود عُنصرين لم يُفلحا في دفع المضرَّة التي تلمُّ بالإنسانية، وهما القوة والاستهلاك. عندما يستحضر أتالي التضامن كقيمة إنسانية من شأنها مجاوزة الانحسار الراهن، فإنه يشير إلى مسألة اختفت في الدراسات الفلسفية منذ دلتاي وماكس شيلر، وهي «التقمُّص الوجداني» (empathie, Einfühlung). تمَّ التخلِّي عن هذا المفهوم الذي دعَّم التحليل النفسي والفينومينولوجيا بقيمة نظرية وعملية زائدة، أقول تمَّ التخلي عنه على أنه من بقايا الفلسفة الذاتية. غير أننا نخطئ إذا اختزلنا التقمُّص الوجداني في سلوك نفساني هو التعاطُف الذي قد يسقط في فخ النرجسية. إذا كان هنالك «نموذج رابع» سيكتسح البشرية هو تنامي هذا السلوك الوجداني الذي سيضع حدًّا للتصوُّر الراهن للعالم القائم على الهوس المفرط في الاستهلاك الذي يُمثّل المأزق الذي وصل إليه النموذج الثالث، ساعدته في ذلك الفردانية الكاسحة، بل والأنانية المستوطنة.

ما هو عمل هذا التقمُّص الوجداني في النموذج الرابع؟ يمكن القول بأن وباء كورونا العالمي سيُعجِّل في توطين هذا النموذج الرابع. سيكون ذلك بتراجع حُمَّى البيع والشراء (النموذج الثالث) والالتفات إلى سمَّاه أتالي «ما هو جوهري أو أساس» (l’essentiel) بالوعي الجماعي بالانتماء الطبيعي للأرض، وبأن لهذا الكوكب حدوداً في الموارد الطبيعية (المائية، النباتية، الحيوانية) وبأن الوعي بهذه الحدود وعقلنة الاستهلاك وترشيد النفقات هي السُّبُل الوحيدة في تجاوز المحن الحالية. إذا أخذنا على محمل الجد التقمُّص الوجداني ونفضنا عنه غُبار الذاتوية، نقول بأنه ينتمي إلى جوهر «البَشَرة» التي هي جوهر البشرية نفسها، اسماً ورسماً. لِمَ البشرة؟ أسمِّي البشرة نمط العلاقة بين البشر بالانتماء الجماعي إلى الأرض.
كان أغسطين بيرك قد اصطلح على الإقامة في الأرض اسم «المسكونية»4؛ هو أن جوهر البشرية هو القابلية للسكن في الأرض (habitabilité) مع الوعي بهذه المسكونية على مستوى الوعي بحدود الأرض على مستوى الموارد (الطاقة، الماء، النبات، الحيوان). بهذا الوعي يتمُّ توطين التقمُّص الوجداني بناءً على ما اصطلحتُ عليه اسم «الانتماء إلى البشرة». تُوفِّر البشرة أساسيات هذا التقمُّص على مستوى التعاطف والفهم الذي يعني التفاهم وتأويل الوضعيات الإنسانية تأويلاً «بشرياً» (من البشرة). يضمُّ المجال الأرضي (géosphère) الذي نقطنه طبيعياً الغلاف البشري (dermosphère) الذي يجعل ممكناً التواصل الإنساني على المستوى الفكري والثقافي (noosphère). إذا كان التوكيد على المستوى الفكري والروحي والكوكبي أو العولمي قد أنسانا نظام انتمائنا إلى البشرة، وإلى الأصل المتواري فيها، وهو «الأدمة»، فإن مجاوزة المحن الحالية مرهون بفقه سؤال البشرة والمسكونية الأرضية.

يُقدِّم التقمُّص الوجداني من وحي البشرة أساسيات المعنى من وحي المعاناة؛ أي ما نختبره في نقطة التَّماس بين البشرة والعالم. تمرُّ العناية بالعالم بحماية البشرة التي هي جوهر البشرية. كل عناية بالبشرة هي السلوك الوجداني تُجاه البشر بدرء ما يُؤلم هذه البشرة. إنها العناية ببشرة الأرض (البيئة) وببشرة الإنسانية (الصحة). نُدرك بأن الوباء يُوفِّر المنبِّه الأساس للالتفات إلى قيمة البشرة التي كانت بمنزلة اللامفكَّر فيه داخل الاستغلال الفاحش والمفرط لبشرة الأرض باستنفاد مواردها، وداخل الصراع المتعب بين الأيديولوجيات في الطبقة المفكِّرة (noosphère). تُوفِّر لنا البشرة أساسيات التفكير في مستقبل البشرية بوضع الوجدان في صُلب الوجود، هذا الوجدان الذي يتجاوز محض الشعور النفساني بالآخر، والذي قد يميل إلى نوعٍ من الشعور النرجسي والأناني بالتواصل مع الآخر، نحو الاستشعار بالآخر على سبيل التذاوُت.

 

 

modal